اللقاء الدينى مع فضيلة الدكتور / اسماعيل المرشدي من علماء الأوقاف
إعداد _ أشرف المهندس
أولا :- مفهوم جبر الخواطر:
الجبر عادة يقال عن العظم وهو أكثر ما يؤلم عندما يكسر، فنضع له جبيرة كى يلتئم. وعكس «الجبر» «الكسر»، ولكم أن تتخيلوا كم هو مؤلم كسر العظام ومعروف إنها لا تلتئم بسهولة وأحيانا يترك الكسر شروخا، لذا سمى بالجبر لأنه يحتاج وقتا ولا يأتى ببساطة , والخاطر هو القلب أو النفس فيقال أخذ على خاطره: يعنى حزن وقلبه تأثر, وجبر الخواطر خلق إسلامي عظيم يدل على سمو نفس وقلب وسلامة صدر ورجاحة عقل، يقول سفيان الثوري: “ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلي ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.
و(الْجَبَّارَ) بمعنى القَّهارِ وهو الذي دانَ لهُ كلُّ شيءٍ، وخَضعَ له كلُّ شيءٍ، ولا يقعُ في هذا الكونِ شيءٌ إلا بمشيئتِه سبحانه؛ فما شَاءَ كانَ، وما لم يَشأْ لم يكنْ، فهو الجابرِ للقلوبِ المنكسرةِ؛ فيجبرُ الكسيرَ، ويغني الفقيرَ، ويُيِّسرُ على المعسرِ كلَّ عسيرٍ، ونردد طوال الْيَوْمَ« جبر الخواطر على الله »”ربنا يجبر بخاطرك “، دعوة نسمعها كثيرا ،و بشكل خاص من كبار السن ، و لكن قد لا يعلم معناها كثيرون ، و لا يدركون سرها و عظمتها .
ثانيا:- صور من عناية الإسلام بتطييب النفوس وجبر الخواطر :
1-. استحباب التعزية ﻷهل الميت، تطيًبا لخواطرهم على فقد ميتهم. عن أنس بن مالك: أنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ أتتِ النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ( يا نَبيَّ الله، ألا تُحدِّثُني عن حارثة ـ وكان قُتِلَ يوم بَدرٍ، أصابَهُ سهمٌ غَرْب (لا يعرف من أَي جهة رُمِيَ به) فإن كان في الجنة صَبَرتُ، وإنْ كان غير ذلك، اجتَهَدتُ عليه في البكاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: يا أُمَّ حارثة إنها جِنانٌ في الجنَّة، وإنَّ ابنَكِ أصاب الفِردَوسَ الأعْلَى).
2-. شرع للمطلقة غير المدخول بها نصف المهر، تطيًبا لخاطرها.
3-. إقرار الدية في القتل الخطأ، لجبر نفوس أهل المجني عليه.
4-. نهى الله تعالى عن نهر السائل ، وأوصى نبيه أن يتلطف به، ويطيب خاطره، حتى لا يذوق ذل النهر مع ما هو فيه من ذل السؤال، وفي قوله تعالى: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} أجمل تطييب للخاطر وأرقى صورة للتعامل.
وهذا أدب إسلامي رفيع. ومن جبر الخواطر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رد سائلاً قط بل كان يرشد الصحابة للحل ويدلهم على الطريق ويطيب خاطرهم فقد دخل – عليه الصلاة والسلام- ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال :”يا أبا أمامة، مالي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله -عز وجل- همك، وقضى عنك دينك، قلت: بلى يا رسول الله؟ قال: قل إذا أصبحت، وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، وأعوذ بك من العجز، والكسل، وأعوذ بك من الجبن، والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله -عز وجل- همي وقضى عني ديني”.
5-. مطلوب حتى مع الأعداء, يقول ابن القيم : جئت مبشرا لابن تيمية بموت ألد أعدائه، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال : إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له. وعلى خلاف هذا الخلق الكريم، تجد في زماننا أناسا قست قلوبهم، وجعلوا من مآسي الناس ونكباتهم مجالا للضحك والسخرية بهم، ومن صور ذلك : الفرح بإخفاق أولاد الجيران دراسيا. , الفرح لمصائب زملاء العمل. فرح المرأة لمكروه يصيب أقارب زوجها، أو مصائب ضرتها، أو طلاق صديقتها. فليحذر هؤلاء، فإن هذه صفة المنافقين : {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها}.
6-. الاعتذار للآخرين، وقبول اعتذار المعتذرين. تبادل الهدايا. الابتسامة. التزاور.
7-. قضاء حوائج الناس.
8-. عند مشاهدة بعض الفقراء أو اليتامى شيئا من قسمة الميراث فمن الأفضل أن يخصص لهم من المال شيئا يجبر خاطرهم ويسد حاجتهم حتى لا يبقى في نفوسهم شيء، قال تعالى: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}.
ثالثا:- نماذج جبر الله لخاطر عباده :-
1-. سيدنا يوسف: { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } فكان هذا الوحي من الله سبحانه وتعالى لتثبيت قلب يوسف عليه السلام- ولجبر خاطره؛ لأنه ظلم وأوذي من أخوته، والمظلوم يحتاج إلى جبر خاطر، لذلك شرع لنا جبر الخواطر المنكسرة.
2- سيدنا محمد يقول الله: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } والنبي صلى الله عليه وسلم الذي أحب مكة التي ولد فيها ونشأ، أُخرج منها ظلمًا، فاحتاج إلى شيء من المواساة والصبر على فراق بلده الذي أحبه. فأنزل الله تعالى له قرآنًا مؤكدًا بقسم؛ إن الذي فرض عليك القرآن وأرسلك رسولاً وأمرك بتبليغ شرعه، سيردك إلى موطنك مكة عزيزًا منتصرا وهذا ما حصل. ومثله أيضًا قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}
3-. يجبرُ خاطرَ الرَّحمِ لمَّا عاذتْ به من القَطيعةِ، قَالَ “إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ“.
4-. وعاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه أعرض عن ابن أم مكتوم وكان أعمى عندما جاءه سائلا مستفسرا قائلا: علمني مما علمك الله، وكان النبي منشغلاً بدعوة بعض صناديد قريش، فأعرض عنه، فأنزل الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)
رابعا:- مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في جبر الخواطر
1-. مع أم المؤمنين سودة بنت زمعة :- فإذا تأملنا حال أم المؤمنين سودة بنت زمعة نرى أنها أسلمتْ قديمًا، وكانت متزوجة مِن ابن عمها: السكران بن عمرو، وأسلم هو أيضًا، ثم هاجرا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها، وقيل: مات بالحبشة، وهنا تزوجها -صلى الله عليه وسلم وتعدُّ السيدة سودة أوَّل امرأة تزوجها الرسول بعد خديجة، وكانت قد بلغت مِن العمر حينئذٍ الخامسة والخمسين، بينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخمسين مِن عمره، ولما سمع الناس في مكة بأمر هذا الزواج عجبوا؛ لأن السيدة سودة لم تكن بذات جمالٍ ولا حسبٍ، ولا مطمع فيها للرجال، وقد أيقنوا أنه إنما تزوجها رفقًا بحالها، وشفقة عليها، وحفظًا لإسلامها، وجبرًا لخاطرها بعد وفاة زوجها.
2-. مع زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ:- وعن أنس بن مالك أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ – يُقال لَهُ: زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ كَانَ يُهدِي إِلَى النَّبِيِّ الْهَدِيَّةَ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (إِنَّ زاهِرًا بَادِيَنا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ) قَالَ: فَأَتَاهُ النَّبِيُّ وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ -وَالرَّجُلُ لَا يُبصره-؛ فَقَالَ: أَرْسِلْنِي، مَن هَذَا؟! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ النَّبِيُّ جَعَلَ يُلْزِقُ ظَهْرَهُ بِصَدْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟)، فَقَالَ زَاهِرٌ: تجدُني يَا رَسُولَ اللَّهِ كاسِدًا، قَالَ: (لَكِنَّكَ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ)، وفي لفظ: (بَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ) فتأمل كيف تعامل رسول الله مع زاهر، وكان رجلًا دميمًا؟! لذا قال: “تجدُني يَا رَسُولَ اللَّهِ كاسِدًا”، ولكن جبر رسول الله خاطره، وأخبره أنه عند الله له قدر ومنزلة.
3-. وعن جابر بن عبدالله قال: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ لِي: (يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: (أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ) قَالَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ)، قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) . فانظر كيف جبر الرسول خاطره، وأزاح عنه الهم بهذه الكلمات؟!
4-. الامام أحمد بن حنبل لم ينس من صًبره وجبر خاطره وقت المحنة ( أبو الهيثم ) فكان يدعو له في كل صلاة : “ اللهم اغفر لأبي الهيثم , اللهم ارحم أبا الهيثم , قال ابن الإمام له : من يكون أبو الهيثم حتى تدعو له في كل صلاة ، قال : رجل لما مُدت يدي إلى العقاب وأُخرجت للسياط إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي : تعرفني ؟ قلـت : لا . قال أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار ، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين”
وفي هذا الزمان تشتد الحاجة إلى مواساة الناس والتخفيف عنهم وتطييب خاطرهم؛ لأن أصحاب القلوب المنكسرة كثيرون، نظرًا لشدة الظلم الاجتماعي في هذا الزمان، وفساد ذمم الناس واختلاف نواياهم. وجبر الخاطر لا يحتاج سوى إلى كلمة من ذكر، أو دعاء، أو موعظة، وربما يحتاج الآخر لمساعدة وابتسامة.